مفاوضات «مانهاست» فرصة تاريخية لعودة البوليساريو إلى نطاق الشرعية
مرت الجولة الأولى من المفاوضات بين المغرب وجبهة البوليساريو التي احتضنتها ضاحية «مانهاست» بنيويورك يومي 18 و19 يونيو الجاري بسلام بعد أن نجح الطرفان رغم الاختلافات التي ميزت وجهات نظر كل طرف بخصوص طريقة تدبير هذا الملف الشائك، في تحديد موعد جديد للقاء خلال شهر غشت المقبل. وبغض النظر عن قلة المعلومات التي تسربت حول هذا اللقاء الذي تم برعاية أممية، فإن ما يثلج الصدر هو أن المغرب نجح لأول مرة في جر الإخوة الصحراويين المغرر بهم من طرف الجارة الجزائرية إلى الجلوس مباشرة على طاولة المفاوضات من أجل تدارس مستقبل جزء عزيز من وطننا بعيدا عن الرقابة المباشرة للحكام الجزائريين (علما أن هذه المفاوضات تابعتها كل من الجزائر وموريطانيا كملاحظين)، ورغم ما تم تداوله حول الإنزال الكبير الذي قامت به الدولة الجزائرية من خلال أجهزتها المخابراتية للتأثير في طبيعة القرارات التي قد يخرج بها الطرفان المتفاوضان، خاصة وأن الجزائر ما فتئت تعبر عن معارضتها للتفاوض على قاعدة وثيقة الحكم الذاتي التي سبق للمغرب أن تقدم بها أمام أنظار المنتظم الأممي الذي اتخذها كمنطلق لإصدار قراره رقم 1754 الداعي إلى الجلوس على طاولة التفاوض ما دامت هذه الخطة لا تخدم مصالحها أكثر مما ستمكن الإخوة المحتجزين في مخيمات تيندوف من العودة بكل كرامة لوطنهم للمساهمة في إنجاز مختلف الأوراش التي يعرفها المغرب وهو ما يغيض الجزائر التي تعتبر استمرار النزاع في الصحراء بمثابة مشجب يمكنها أن تعلق عليه فشلها في تدبير أزماتها الداخلية وإلهاء الشعب الجزائري الشقيق عن الحديث حول قضاياه الاجتماعية والاقتصادية وكيفية تدبير ثرواته التي لا يتوانى حكام الجزائر عن تدبيرها في تغذية فتيل نزاع يحلمون ليل نهار بإعادة إشعاله لتحقيق حلمهم القديم في محاصرة المغرب من كل الجهات رغم معرفتهم التامة أن هذا من سابع المستحيلات ما دام المغرب بلدا نجح في تحصين نفسه والتجاوب مع كل المبادرات الرامية إلى إنهاء هذا النزاع بما يحفظ كرامته وكرامة شعب ضحى بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ على هذا الجزء من وطنه، بل إنه اليوم لا يتوانى عن مد يد الأخوة الصادقة إلى جزء من أبنائه المغرر بهم ودعوتهم إلى الجلوس على الطاولة لمناقشة الطريقة المناسبة التي ستنتهي حتما بصيغة «لا غالب ولا مغلوب». مفاوضات «مانهاست» التي أعادت ملف الصحراء المغربية إلى سطح الأحداث «تعد ثمرة المجهودات التي قامت بها المملكة المغربية من أجل إقرار حل سياسي لإنهاء النزاع حيث تقدم المغرب بالمبادرة التي ساهم في بلورتها كافة المكونات السياسية للمملكة والمجلس الملكي الإستشاري للشؤون الصحراوية الذي يمثل أغلبية أبناء الصحراء» كما أكد على ذلك وزير الداخلية شكيب بنموسى في التصريح الصحفي الذي ألقاه بعد انتهاء الجولة الأولى من هذه المفاوضات، وبالتالي فإن ما نتمناه هو أن تكون قد نجحت في إذابة جبل الجليد وكسرت ذلك الحاجز النفسي بين المواطنين المغاربة الذين تجمعهم أواصر التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك من أجل الاحتكام إلى المنطق العقلي وتغليب المصلحة العامة لساكنة الأقاليم الجنوبية على كل نزوعات الزعامة التي تسكن بعض إخواننا الصحراويين الذين لا زالوا تحت تأثير الأطروحات الجزائرية، خاصة وأن طريقة تعاطي المغرب مع هذا الملف، سواء من حيث تركيبة وفده التي تضم السيد خليهن ولد الرشيد الذي من شأنه تواجده إلى جانب كل من السادة فؤاد عالي الهمة وشكيب بنموسى والطيب الفاسي الفهري ومصطفى الساهل، (أقول من شأنه) أن يساهم في تقريب وجهات النظر، خاصة بعد أن نجح المغرب خلال اليوم الأول من هذه المفاوضات في فرض تواجده (أي ولد الرشيد) لما يمثله من رمزية وكصوت لأغلبية أبناء الصحراء الذين اختاروا المغرب كوطن لهم عوض البحث عن وطن لا يوجد إلا في مخيلة سكان حي الصنوبر الجزائري، خاصة في زمن يعرف فيه العالم التوجه نحو تقوية التكتلات الإقليمية والجهوية وتشجيع قيام الاتحادات، وبالتالي، فإن من شأن التقاط ممثلي البوليساريو لهذه الإشارة والتعامل معها بذكاء أن يدلل كل العقبات خلال الجلسات المقبلة من أجل الخروج بحل سيرضي كل الأطراف. من ناحية أخرى، وفي انتظار الجولة القادمة، ومن خلال التأمل في بعض الجمل الواردة في تصريح وزير الداخلية أمام رجال الصحافة بنيويورك، يبدو لي مهما أن أذكر بالطريقة الراقية التي يتعامل بها الوفد المغربي مع هذه المفاوضات حيث تتكرر عبارات من قبيل «حل وسط سياسي توافقي ونهائي لهذا النزاع» و«حل واقعي وجدي ومسؤول يستمد روحه من الشرعية الدولية ونماذج الحكم الذاتي المعمول بها في الدول الديمقراطية» و»نظام الحكم الذاتي للجهة سيكون موضوع تفاوض وسيطرح على السكان المعنيين في استشارة استفتائية حرة» و«هدف المغرب يتجه نحو إخراج المنطقة من النفق المسدود وتخليصها من أخطار الإرهاب والجريمة المنظمة وبناء مستقبل المغرب العربي على أسس جديدة قوامها المصالحة والتعاون» وغيرها من الجمل التي تدل على أن المفاوضين المغاربة عاشوا يومين عصيبين مع الطرف الآخر من أجل إقناعهم بجدوى قبول وجهة النظر المغربية التي أعلن البوليساريو عن رفضه لها حتى قبل توجهه إلى نيويورك بل وأرسل عبد العزيز المراكشي رسائل إلى المغرب تهدد بالعودة إلى حمل السلاح كوسيلة للضغط، غير أنه يبدو ومع تجديد الاتفاق حول الالتقاء شهر غشت المقبل إلى أننا قد نكون قد قمنا بخطوة مهمة في اتجاه إقرار الخطة المغربية التي من شأن إخراجها إلى حيز الوجود أن تؤدي في نهاية المطاف إلى حل وسطي قابل «للإغناء والتطوير في إطار التفاوض التوافقي واحترام مبدأ الوحدة الترابية للمملكة المغربية» كما قال بنموسى نفسه. فالمطلوب اليوم من الإخوة داخل جبهة البوليساريو ومن أجل الوصول بهذه المفاوضات إلى بر الأمان هو التحلي بنوع من الحكمة والتبصر وبعد النظر، وهو ما لا يمكنه أن يتم إلا من خلال رمي كل الأطروحات السابقة في مزبلة التاريخ وفتح صفحة بيضاء مع المغرب عنوانها الكبير بناء مغرب قوي وقادر على مواجهة التحديات، مغرب يستجيب لكل طموحات وتطلعات أبنائه من طنجة إلى لكويرة، مغرب بإمكانه أن يكون مكانا للاختلاف وتعدد الأفكار البناءة التي بإمكانها إغناء تجربتنا... وبالتالي فإن المأمول هو أن يأتي الطرف الآخر خلال شهر غشت المقبل وقد قام بمجموعة من المراجعات الرامية إلى التخلص من أفكاره الماضوية من أجل فتح الباب أمام وضع حد لكل النزعات والأفكار الانفصالية التي كانت سببا في فشل كل المبادرات السابقة. إن البوليساريو اليوم أمامه فرصة تاريخية، فإما أن يعرف كيف يستثمرها لصالحه من أجل إنهاء سنوات المعاناة التي يفرضها على الآلاف من المواطنين المغاربة، وبالتالي الانخراط في المشروع الديمقراطي والتشاركي الذي يطرحه المغرب، وإما أن يخطئ استغلالها، وفي هذه الحالة فإن للمغرب والمغاربة كل المقومات من أجل الدفاع عن وحدة ترابهم حتى آخر قطرة دم عبد الله عباسي